الأمراض التربوية - الأحكام المسبقة
الدكتور محمد ابراهيم بدرة
"إن معظمنا من البالغين مصابون بالإعاقة التعليمية دون حتى أن نعرف ذلك. إن الذي سبَّب هذه الإعاقة, ويستمر في تقويتها, هو صندوق المعتقدات والأحكام المسبقة التي ورثناها حول التعليم, ولقد تجذَّرت هذه المعتقدات في مفاهيم التعليم والتدريب وأصبح من الصعب جداً هزُّ أصولها. إن ما يعطي لهذه الأحكام المسبقة القديمة قوتها هو اعتبارها افتراضياً الشكل الذي كانت عليه الأمور وستستمر عليه."[1]
وكمثال: كيف يتعامل المعلم مع متعلميه؟ يتعامل معهم حسب قناعاته ومعتقداته (الأحكام المسبقة) التي توصَّل إليها في حياته حول التعليم ومبادئه وأساليبه، بمعنى أنه يتعامل حسب ما يعتقد أنه الأصح. أيضاً، كيف يتعامل المتعلم مع المادة التعليمية؟ الإجابة نفسها: يتعامل مع المادة حسب قناعاته ومعتقداته (الأحكام المسبقة)، فكم من متعلم لم ينجح بدراسة الرياضيات لأنه يعتقد بأنها صعبة مثلاً. إذاً، يتعامل حسب ما يعتقد أنه الأصح. والسؤال هنا: هل فعلاً هو الأصح؟
الحكم المسبق عن شيء ما، هو تصور ذهني عنه أو قل هو قناعة بأن شيء ما صحيح أو غير صحيح، وقد يكون الحكم المسبق إيجابياً أو سلبياً، وما يهمنا هنا هو أنه يؤثر التأثير الأعظم في معظم سلوكاتنا. ومعظم سلوكاتنا وتصرفاتنا، عندما نقوم بالتعليم أو بالتدريب أو عندما نقوم بتعلم شيء ما، مصدرها الأساس هو صندوق المعتقدات والأحكام المسبقة التي ورثناها حول التعليم.
يحتوي كتاب "التعلم الطبيعي – التعلم السريع" على الكثير من الأفكار الثورية الفعّالة، وللاستفادة منها بالشكل الأمثل لابد من فهم آلية تطبيقها، مع مراقبتها وتطويرها بما يضمن نتائجها المرجوة، وقبل الخوض فيها أكثر فإننا بحاجة إلى فهم "معاييرنا" نحن وكيف نتصوّر ما حولنا ذهنياً بمعنى: كيف ننظر إلى الكون وما فيه من حولنا، وكيف نتصرف بناءً على هذا التصوّر، لأنه بناءً على رؤيتنا للأمور نقوم بسلوكياتنا...
عندما تسمع كلاماً ما عن مدينة ما (لم تزرها من قبل) وتصدق هذا الكلام، فإنك تكون قد شكّلت في ذهنك حكماً عنها (تصور ذهني)، وعندما ينشب شجار بينك وبين صديق ما، ويرفع صوته، ويهدد، فإنك قد تتبنى حكماً عنه (تصور ذهني)، وعندما تحدث أمامك قضية ما، قد تستخلص منها حكماً ما (تصور ذهني)، وبالرغم من أنك إذا زرت المدينة فيما بعد، قد تكتشف أنها غير ما سمعت عنها، وقد يكون هناك تفسير لموقف صديقك منك غير الذي شكّلته في رأسك، كذلك الأمر بالنسبة للحادثة التي وقعت أمامك، ليس كل ما تسمعه وتراه يكون بالضرورة هو الحقيقة.
يوجد في رأس كلٍ منّا الكثير من التصوّرات الذهنية التي نقوم من خلالها بتفسير كل ما يمر بنا من تجارب، ونميل إلى الاعتقاد بها، وبأننا نرى الأشياء كما هي (أي أننا نفترض أننا موضوعيون)، ولكننا لا نرى العالم كما هو، بل كما نكون نحن، وعندما نتكلم لنصف العالم فإننا في الحقيقة نصف أنفسنا ومعاييرنا وأحكامنا المسبقة، وعندما نختلف مع الآخرين فإننا نظن أنهم على خطأ، ولكن الحقيقة أن كل منا يرى العالم بعدسته الخاصة ومن خلال تجربته الشخصية.
هذا كله لا ينفي وجود الحقائق، ولكننا هنا نتكلم عن تفسيراتنا لهذه الحقائق، وخاصة إذا كانت تلك التفسيرات لا تطابق الحقيقة، مما يؤدي إلىأن تصبح الحقائق دون أي معنى على الإطلاق خارج نطاق هذه التفسيرات.
في دورات مركز دبي للتعلم السريع عادة ما يتم طرح السؤال التالي على المشاركين من المعلمين: كم كلمة جديدة من لغة أجنبية يستطيع المتعلم الشاب أن يكتسب يومياً؟ وعادة تأتي الإجابات: عشرة يومياً، أو ثلاثين، أو خمسين، ولا أذكر إجابة تجاوزت المئة كلمة يومياً. وأطرح عليك ذات السؤال الآن، وأرجو منك ألا تكمل القراءة قبل أن تضع رقماً في ذهنك. هل وصلتَ إلى إجابة ما؟ لا تكمل قبل أن تجيب.
لن أقدم لك الإجابة الآن لأنك ستجدها إن شاء الله في الفصول القادمة، وسيكون رقماً صادماً لك كما كان بالنسبة للمشاركين في ورشات التعلم السريع. الإجابة ليست مهمة الآن بقدر أهمية إجابات المعلمين أنفسهم، فالمعلم الذي أجاب بعشرين كلمة جديدة يومياً قد أصدر حكماً مسبقاً وبناءً عليه لن يقوم بتعليم متعلميه أكثر من عشرين كلمة يومياً. فإذا افترضنا أن قدرة الإنسان تصل إلى مئة كلمة يومياً (وهذا مجرد افتراض لأن قدرة الإنسان أكثر من هذا بكثير كما ستجد في الأدلة التي سترد لاحقاً) فلقد أثر الحكم المسبق للمعلم على نتيجة التعليم.
وذات المثال نطبقه على المتعلم، فإذا كان يعتقد بأنه لا يستطيع أن يتجاوز العشرين كلمة يومياً، فحقيقة لن يستطيع أن يتعلم أكثر من عشرين كلمة، وبالتالي سيكون تأثير الحكم المسبق سلبياً للغاية وسيسبب خسارة كبيرة. ولهذا لن يكون غريباً أن تجد أنَّ أول مبدأ في طريقة لوزانوف التي تتضمن ستة مبادئ أساسية هو: "إلغاء الإيحاء لدى المتعلّم بفكرة أنّه محدود القدرات، وذلك بإزالة الحواجز النفسية (الذهنية) السلبية والتي تشلّ قدرته الطبيعية على التعلّم"[2].
وهنا قد يخطر في ذهنك الأحكام المسبقة التالية: من قال أن العصا أمر جيد في التعليم؟ أنَّ تجزئة المعرفة إلى مواد تعليمية تدرس كل منها على حدى أمر جيد؟ أنَّ فصل الدين عن العلم أمر جيد؟ من قال أن الكتاب أفضل طريقة للتعلم؟ أنَّ الكذب الأبيض ليس كذباً وهو أمر مقبول؟ من قال أن هدوء المتعلم في الصف يدل على تعلمه؟ لما لا يدل على سباته الفكري؟ من قال أن الذكر أذكى أو أفضل أو أقوى من الأنثى في التعليم الثانوي أو التعليم العالي؟ من قال أننا أخذنا تعلمنا من المدارس والجامعات؟ من قال أنه يتوجب علينا دخول المدارس كي نتعلم؟ من قال أنه لابد من اثنتي عشر سنة كي نحصل على الثانوية العامة (شهادة محو الأمية)؟ من قال أن الانسان المتوسط يستطيع حفظ عشرين كلمة أجنبية في اليوم؟ منذ فترة وأنا أفكر: من هو الشخص الذي كان السبب وراء استيقاظي السادسة صباحاً يومياً ولمدة اثني عشر سنة، وفي كل الحالات الجوية من حر أو برد كي أذهب إلى المدرسة؟
أعتقد أنك تتفق معي أن مرض الأحكام المسبقة هو المرض الأساس، المرض الذي تنتج عنه وبسببه بقية الأمراض. من أعراض هذا المرض القولبة وقلة الإبداع عند المعلم والمتعلم والقيام بالشيء دون معرفة مصدره الأساسي، ويساهم في الابتعاد عن إنسانيتنا، فالإنسان بفكره الحي وليس بتقليده الأعمى. أعراضه باختصار: قولبة الإنسان وشلّ إبداعه الطبيعي.
الترياق:
كلما زاد إدراكنا لأحكامنا المسبقة (تصوّراتنا الذهنية) زادت مسؤوليتنا حول اختبارها وتمحيصها في مواجهة الحقيقة، وصارت النتيجة موضوعية أكثر، لقد نشأ مصطلح تغيير الصورة الذهنية مع توماس كوهن[3] الذي صكه في كتابه الذائع الصيت "هيكلة الثورات العلمية"، وأوضح كوهن كيف أن تقريباً كل اختراق مهم في مجال الجهود العلمية هو في المحل الأول اختراق للتقاليد، وللطرق الموروثة في التفكير والتصوّرات التي عفا عليها الزمن (9 صفحة 38)، لقد كان القدماء يتصوّرون أن الأرض مركز الكون، حتى جاء كوبرنيكوس وغيّر هذه القناعة عندما غيّر مركز الكون من الأرض إلى الشمس، وأخذ أينشتاين مكانته لأنه لم يأسر نفسه في أحكام محددة دونما تقييم لها، انظر إلى قوله: "بينما كان الناس يفكرونفي المعقول كنت أفكر في المستحيل[4]".[5]
لابد من الارتياب والانفتاح، فلقد روى كل من البخارى ومسلم من حديث أبى هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: "نحن أحق بالشك من إبراهيم إذ قال: رب أرنى كيف تحى الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبى. ويفسر علماء الحديث شك سيدنا ابراهيم الذي امتدحه النبي صلي الله عليه وسلم في هذا الحديث "بشك كيفية" لا "شك ايمان". اذ ان سينا ابراهيم لم يشك في امكانية احياء الموتي بل أراد التثبت بنفسه من "كيفية" عملية الإحياء بالتجربة العلمية والعملية، فكان بذلك ان أسس لنا منهج علمي في التثبت من الحقائق قبل الانفعال بها.
ويقول ديف ماير: "أنت تدين لنفسك, ولأمانتك العلمية, وللمنظمة التي تعمل فيها بأن تكون مُرتاباً وشكّاكاً في كل ما يمر من أمامك حتى تثبت فعاليته. لا تسمح لنفسك أن تقع فريسة لما تسمي نفسها "ثورات" في التعلم قبل أن تسميها أنت كذلك. نجد أنفسنا أحياناً مندفعين تجاه التكنولوجيا الحديثة, دون أن نقف ونناقش أنفسنا في مبادئ التعليم الأساسية. وأحياناً أخرى نسمح لأنفسنا بالانبهار بالطرائق التي تركز على "المتعة واللعب", بالحيل الذكية, بالتقنيات اللطيفة... كل ذلك دون أن يكون لدينا أي دليل مهما كان صغيراً على أنها تحقق أية نتائج قابلة للحياة.
من المفيد إذاً أن تمارس الارتياب, لأنك إن لم تفعل, ستجد نفسك وقد أنفقتَ الكثير من الوقت والجهد والموارد في مقابل أن تجعل من عملك أقرب "للتفاهة" و"الفراغ", ودون أية نتائج ملموسة على المدى البعيد.
أما الانفتاح: بالمقابل, ومع أهمية التشكك والارتياب, لا بد من الحفاظ على الانفتاح تجاه التجارب التي يمكن أن تحقق نتائجاً ملموسة، فالحياة عملية تطور مُستمرّة وغير قابلة للتوقف. وبمجرد أن نعتقد أننا قد رأينا كل ما يمكن أن نراه, أو عرفنا كل ما يمكن أن نعرفه, نكون قد وصلنا إلى نقطة خطيرة جداً. الوحيدون الذين لهم أن يقولوا أنهم قد شاهدوا وعرفوا كل شيء هم الموتى! أما بالنسبة للأحياء, فالحياة لن تتوقف عن طرق أبوابهم بكل جديد في كل وقت, وإذا كانوا من الانفتاح بما يكفي, فسيعرفون كيف يستفيدون مما هو حقيقي وفعال في هذه الجِّدَّة.
الحياة بطبيعتها هي عملية تجدد دائم, وكذلك الإنسان, ولذلك ينبغي الحذر. لا يمكن لك الحكم برداءة أي شيء لمجرد أنه "جديد" و"غريب" عن ثقافة مؤسستك. إن الجديد ليس سيئاً بالضرورة, كما أنه ليس جيداً بالضرورة. فقط بالبحث والتجريب يمكن لك أن تستمر في التطور, مميزاً الغث من السمين, ومغنياً تجربتك الذاتية والمهنية والروحية".
إن ممارسة الارتياب والانفتاح بتوازن حقيقي هو طريقتك للمحافظة على جودة التعليم ونتائجه. ولابد أن نتذكر قاعدة "وما أوتيتم من العلم إلا قليلا" فلا نحكم على الأشياء بسطحية، بل ننظر بعمق إلى المعاني. والأفضل أن نبذل جهداً على تغيير أحكامنا المسبقة أكثر من تغيير سلوكياتنا، قال رالف والدو ايمرسون: "التفكير هو أصل كل ما نفعله".
بعد هذا العرض الموجز لما سميناه مجازاً "مرضاً تعليمياً تربوياً" يصبح واضحاً أن ما يعطي هذا المرض قوته هو تحوله إلى بديهيات في التعليم, واعتباره الشكل الذي كانت عليه الأمور وستستمر عليه. إننا بدون شك بحاجة إلى ثورة حقيقية للتخلص من هذه الأمراض التي حولت التعليم إلى عملية غير فعالة, وغير طبيعية كئيبة وصعبة، حولت المعلم إلى مركز العملية، وحولت المتعلم إلى مستهلك دون إبداع. وحولت بيئة التعليم إلى سجن مخيف ينتشر فيه الملل والكآبة والخوف، وحولتنا كبشر إلى معاقين تعليمياً.
إذا استطاع الطبيب تشخيص المرض وصل إلى نصف الحل وهان عليه وصف الدواء. وفي حال اهتمامك بالتعليم وتحسينه فلابد أن الكثير من الأمراض الواردة سابقاً وطرق علاجها أصبحت واضحة لديك، وعلينا الآن البحث عن آليات لتطبيق ذلك على أرض الواقع، وهذا ما ستجده في كتاب "التعلم الطبيعي- التعلم السريع".