منتديات الساقية الحمراء التعليمية
أهلا وسهلا بك زائرنا الكريم الى منتديات الساقية الحمراء التعليمية
منتديات الساقية الحمراء التعليمية
أهلا وسهلا بك زائرنا الكريم الى منتديات الساقية الحمراء التعليمية
منتديات الساقية الحمراء التعليمية
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

منتديات الساقية الحمراء التعليمية

مفتاح المتعلم ودليل المعلم
 
الرئيسيةالبوابةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 الاستدلال والبناء بحث في خصائص العقلية العلمية

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
زائر
زائر




الاستدلال والبناء بحث في خصائص العقلية العلمية Empty
مُساهمةموضوع: الاستدلال والبناء بحث في خصائص العقلية العلمية   الاستدلال والبناء بحث في خصائص العقلية العلمية I_icon_minitimeالثلاثاء مارس 22, 2016 7:14 pm

الاستدلال والبناء بحث في خصائص العقلية العلمية


تشكل هذه الورقة محاولة متواضعة لتقديم كتاب الاستدلال والبناء. بحث في خصائص العقلية العلمية للدكتور بناصر البعزاتي الذي صدر في نهاية السنة الماضية عن دار الأمان بالرباط والمركز الثقافي العربي بالدار البيضاء. ويجد هذا الكتاب أصله في أطروحة لنيل دكتوراه الدولة في الفلسفة (تخصص: المنطق والإبستمولوجيا وتاريخ العلوم) أنجزها المؤلف تحت إشراف الأستاذ سالم يفوت وناقشها بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط في شهر نونبر 1997.
يقع هذا الكتاب في 509 صفحة. فبالإضافة إلى مقدمة وخاتمة مركزتين جدا وقائمة للمصطلحات ولائحة للمراجع غنية للغاية، قسم المؤلف كتابه هذا إلى ثلاثة أقسام:
ـ القسم الأول: بداهة المقام،
ـ القسم الثاني: النظرية والتجربة،
ـ القسم الثالث: بنائية الاستدلال العلمي.
كما قسم كلا من القسم الأول والثاني إلى أربعة فصول، وقسم القسم الثالث إلى خمسة فصول.
وكما يتضح من خلال العنوان، يتناول هذا الكتاب موضوع طبيعة البناء العلمي أو "خصائص العقلية العلمية". ومما لا شك فيه، أن هذا الموضوع إذ يكتسي أهمية بالغة جعلته يحتل مكان الصدارة في الأبحاث الإبستمولوجية والمنطقية المعاصرة، فهو موضوع شائك ومتشعب للغاية. ولعل هذا ما جعل الأمور المعروضة في هذا الكتاب تبدو، بإقرار المؤلف نفسه، "مبعثرة ومتشتتة وغير منسجمة" (ص17). غير أن المتتبع المنتبه لمختلف تمفصلات الكتاب يدرك بسهولة وجود خيط قوي ناظم لها.
يصرح المؤلف في مقدمة الكتاب أنه تناول الموضوع تناولا نقديا قريبا من تناول كل من بياجي ولورنتسن، إضافة إلى استفادته من أعمال كل من تولمن وباشلار وهانس وكون. وكما يتضح منذ المقدمة، تروم هذه المقاربة البنائية النقدية إلى بناء تصور للعقلية العلمية من خلال نقد صارم للتصورات التقليدية وخصوصا التصورات الوضعانية في صيغها الأصلية والمنقحة (بوبر مثلا) لكونها، إذ حاولت تحديد خصائص العلم من خلال مفاهيم الاستقراء والاستنباط والتحقق وإذ ركزت على منطقية العلم، أهملت عناصر أخرى تتدخل بالضرورة في بناء المعرفة العلمية كـالخلفيات الثقافية والتداول والاقتباس. ومن جهة أخرى، يرفض المؤلف التصورات اللاوضعانية للعقلية العلمية التي قامت، منذ الستينات، على أنقاض التصورات الوضعانية. فإذا كانت هذه الأخيرة قد ركزت على نقاء وصرامة ومنطقية العلم، فإن الأولى أصبحت تركز على "حضور الخيال والحدس والعناصر الشخصية في العلم"، بل أن بعض التصورات اللاوضعانية المتطرفة (فيرابند مثلا) ذهبت إلى حد نعت العلم باللاعقلية وإغراقه في "مزالق مقامية"، وجعله صادرا عن أهواء ذاتية. ومن ثمة، يستخلص المؤلف أن التصورات اللاوضعانية، نسبانية فوضوية كانت أم نسبانية جذرية إذ قامت كرد فعل على تطرف التصورات الوضعانية، سقطت في تطرف آخر، في "إقرارات جزافية" وأحكام مجانية ومرتجلة حول العقلية العلمية.
وتأسيسا على ذلك، ينتدب المؤلف نفسه لتأسيس تصور جديد للعقلية العلمية أفضل وأقوى من التصورات السابقة، يستند على "فتوحات تاريخ العلم والعلم المعرفي ونظرية الاستدلال". وبذلك، فإن الكتاب يطمح إلى أن يكون مساهمة متميزة وأصيلة في البحث الإبستملوجي المعاصر المنشغل أساسا بمشكل طبيعة النظرية العلمية والآليات المتحكمة في بنائها. ولتقديم المعالم الأساسية لهذا التصور البديل، بالدقة التي يسمح بها التقديم، نقترح التوقف عند بعض المسائل المتناولة في هذا العمل، علما أن غنى الكتاب وتنوع قضاياه لا يسمحان لعمل تقدمي كهذا بمتابعته خطوة خطوة.
1 – القسم الأول: بداهة المقام:
يشتمل هذا القسم على أربعة فصول: 1) معيار المنطق الصوري، 2) المنهج والممارسة، 3) تمييز العلم، 4) من المحلية إلى الكونية. ويتناول فيه المؤلف جملة من التصورات التي هيمنت على التحليل الإبستمولوجي والمنطقي للمعرفة العلمية خلال النصف الأول من هذا القرن. ويهدف هذا التناول بالأساس إلى إبراز حدود التناول المنطقي الخالص وقصور الصياغة الصورية للاستدلال العلمي. إن التناول المنطقي الذي ينظر إلى العلم "كإنجاز عملي لقواعد المنطق الصوري" لم يستوعب جيدا طبيعة النشاط العلمي، ذلك أن الصياغة الصورية لا تستجيب لا للدينامية الدائمة للممارسة العلمية ولا للبلورة المسترسلة للمعرفة العلمية. فلو اعتبر المنطقي دينامية الفاعلية العلمية وتفاعل الآليات العقلية مع عناصر أخرى في بلورة المعرفة العلمية لوجد نفسه في موقف حرج للغاية يفرض عليه تغيير لغته الصورية على الدوام.
ومن هذا المنطلق، ينتقد المؤلف التصور الاستنباطاني للعلم، كما تبلور لدى بعض مناطقة العلم المعاصرين من أمثال بوبر وهمبل وناجل. يؤكد هذا التصور على أن "بناء النظرية العلمية خاضع لبنية استنباطانية" (ص23) وأن الاستنباطية خاصية أساسية بل وضرورية للنظرية العلمية. ومن ثمة، يتأدى هذا التصور إلى إقامة علاقة تواز بل وتلازم بين المنطقي والعلمي بحيث أن "ما استجاب لقواعد المنطق فهو علمي وما لم يستجب لها فليس علما". وبناء عليه، بلور الاستنباطانيون نموذجا استنباطيا للتفسير يعتبر أن القوانين العلمية تتسم أساسا باندماجها في النظرية العلمية بالرغم من كونها نتيجة تعميمات استقرائية. فالقوانين العلمية تفسر بالنظرية من حيث أنها مستنبطة منها.
إن المؤلف إذ يعترف بأهمية الاستنباط في النظرية العلمية وقابلية جل النظريات العلمية لأن تعرض في شكل بناء استنباطي، فإنه يؤكد على حدود التصور الاستنباطاني للعلم والنموذج الاستنباطي للتفسير. فبالإضافة إلى كون البناء الاستنباطي للنظرية هو "من قبيل التنسيق البعدي" وإلى استحالة رد النظرية العلمية إلى مجرد بناء صوري خال من أي مضمون دلالي، فإن التصور الاستنباطاني لا يراعي دينامية العمل العلمي ولا الملابسات المقامية التي تبلور فيها. بالجملة، إن هذا التصور إذ يحرص على تقديم النظرية العلمية كبناء صوري دقيق جامد ونهائي، لا يقدم فهما سليما لطبيعة النشاط العلمي.
وفي سياق مناقشته للتصور الاستنباطاني، توقف المؤلف عند مشروع التنسيق الأكسيومي من منطلق الرغبة في ضمان الموضوعية وتخليص لغة العلم من كل الشوائب الذاتية، فألح كثيرا على ضرورة صورانية تامة تؤمن بإمكانية إخضاع كل العلوم بما في ذلك العلوم التجريبية للصياغة الصورية دون الانشغال بمضامينها أو أبعادها الدلالية. فكل المناطقة المعاصرين الذين تحمسوا لهذا المشروع انشغلوا بالجانب الصوري على حساب الجانب الدلالي.
وإذا كان المؤلف لا يتردد في الاعتراف بنجاعة الصياغة الأكسيومية فإنه يرفض دعوى "الصورنة التامة" لعدة اعتبارات، منها أنها تفضي إلى "اصطناعية عقيمة" (ص38) ولا تقدم أجوبة شافية على مجموعة من الأسئلة الإبستمولوجية من نوع العلاقة القائمة "بين النظرية والتجربة والسياق وبين الاستدلال والحدس" (ص36) كما أن النقاش الذي دار في مجال الرياضيات، الموطن الأصلي للمشروع، أثبت استحالة الصورنة المنطقية الكاملة. غير أن أهم عيب يسجله المؤلف في هذا المشروع يكمن في رغبته الجامحة في إخضاع أو إلحاق العلوم في هيئة هيكل بدون حركة، مقطوعة الأواصر بالفاعلية التعقلية والبنائية الفعلية"(ص37).
وبالجملة، إن الصياغة الصورية عمل ثانوي في العلم التجريبي يلحق العمل الأساسي المتمثل في "التشييد والاختبار والمراجعة المستمرة". إنها عمل بعدي أو تراجعي لا يعكس البتة دينامية العمل العلمي ولا الملابسات المحيطة به.
وخلاصة القول، إن المؤلف، إذ يقر بأهمية الاستنباط ونجاعة الصياغة الصورية، يؤكد على حدودهما وعجزهما على تقديم تصور ملائم للعقلية العلمية. فعلاوة على كون الصورنة تؤدي بالضرورة إلى "اختزال تفقيري للبناء المفهومي العلمي "فإن البحث المنطقي المعاصر أثبت استحالة قيام صورنة تامة. فلا يمكن للعلوم التجريبية أن تقوم كعلوم صورية محضة خالية من كل دلالة، كما لا يمكن للعلوم الصورية نفسها كالمنطق والرياضيات أن تتخلص كلية من الحدس. فالمسلمات المضمرة، ميتافيزيقية كانت أم عقدية، والعناصر المقامية، تتسلل حتما إلى كل بناء صوري وتلعب دورا مهما في بناء المعرفة العلمية وبالتالي في تشكيل العقلية العلمية.
2 – القسم الثاني: النظرية والتجربة.
يشتمل هذا القسم على أربعة فصول: 1) في حياد التجربة، 2) الاستقراء، 3) التنبؤ والانتظار و4) الالتزام. وإجمالا، يستهدف هذا القسم إبراز تهافت التصور التجرباني للعقلية العلمية من خلال نقد آلية الاستقرار من الوجهتين المنطقية، والإبستمولوجية، وبالتالي دحض التصور الاستقراءاني للمعرفة العلمية. لقد أخضع المؤلف التصورات اللاستقراءانية لتكون المعرفة العلمية التي برزت كبديل للتصور الاستقراءاني أيضا لدراسة نقدية دقيقة أفضت به إلى رفضها لكونها عجزت عن تقديم بديل للاستقراء وأهملت دور التداعي والتمثيل في بلورة المعرفة العلمية. وسنكتفي، من جهتنا، بتقديم بعض الاعتبارات الأساسية التي أدت بالمؤلف إلى رفض التصور التجرباني الاستقراءاني للعقلية العلمية.
ينطلق التصور التجرباني للعلم من منطلقين أساسيين: فمن جهة أولى، يعتبر التجربانيون التجربة مصدرا للمعرفة ومحكا لها. فكل العلوم، بما في ذلك العلوم التي اتخذت شكل بناءات صورية عقلية كالرياضيات تخضع لهذا المبدأ. ومن ثمة إنهم ينظرون إلى الاستقراء باعتباره الآلية الأساسية لبناء العلم. ومن جهة ثانية، يحرص التجربانيون على التمييز بين العلم واللاعلم مؤكدين على فكرة نقاء وصفاء العلم. وبالرغم من كون الوضعانيين المعاصرين وجهوا اهتماماتهم صوب التحليل المنطقي للغة فإنهم ظلوا أوفياء لهذين المنطلقين بحيث ردوا لغة العلم إلى قضايا، وجعلوا من مطابقتها للوقائع الخارجية معيارا لصدقها. فريشنباخ مثلا انتهى إلى القول إن العلم هو مراكمة للقضايا الصادقة المطابقة للوقائع، كما رد كارناب لغة العلم إلى وحدات أو ذرات سماها "عبارات قاعدية" مستمدة من التجربة ومتسمة بدرجة عالية من الدقة والوضوح.
لقد أخضع المؤلف هذا الموقف لنقد صارم ودقيق مستندا على أحدث الدراسات الإبستمولوجية في هذا الباب. فانتهى إلى جملة من الخلاصات الحاسمة أجملها على النحو التالي:
1 – لا وجود لملاحظة مباشرة مجردة من كل "قصدية مؤطرة" أو بدون تأطير نظري في العلم. فالملاحظة تختلف من ملاحظ لآخر باختلاف انشغالاته وتكوينه أو الجهاز المفهومي الذي يستعمله. ويوضح المؤلف هذه الحقيقة التي باتت مؤكدة بالقول إن الذي يجعل من الملاحظة جديرة باسم ملاحظة علمية هو "الانتباه إلى مجرياتها. بيد أن الانتباه عملية تتضمن اختيارا وانتقاءا واختزالا وتأويلا. فلا يلاحظ المرء عادة ما لا يكون بصدد البحث عنه، إلا إذا كانت ملاحظة سطحية لا تثير الذهن. أما الوقوف عند دقائق الظواهر الملاحظة، فإنه يتطلب تركيزا من نوع خاص، أي يتطلب نشاطا عقليا مركزا" (ص164).
2 – لا وجود لتجربة نقية في العلم. إن "التجربة المحايدة" و"العبارات القاعدية" و"مطابقة القول للواقعة" وغيرها من المسلمات الوضعانية ليست إلا أوهاما لا وجود لها في الممارسة العلمية. ويؤسس المؤلف موقفه هذا على جملة من الاعتبارات منها:
أ – إن الدعوة للانطلاق من التجربة تقوم أصلا على نظرية. ولذلك، فإن الوضعانية وإن زعمت الانطلاق من التجربة، فهي تنطلق حتما من نظرية أي من تصور معين للواقع ولأسلوب التعامل معه.
ب – تعتبر كل تجربة علمية تجربة مؤطرة نظريا. ولذلك درج البحث الإبستمولوجي المعاصر على التمييز بين التجربة Expérience والتجريب Expérimentation. فالتجربة العلمية ليست هي التجربة التلقائية المبتذلة ولكنها تجريب بمعنى مساءلة ممنهجة للطبيعة تنطلق حتما من أسئلة محددة وتعتمد جهازا مفاهيميا معينا.
ج – ينطلق كل بناء علمي من جملة من "المسلمات المضمرة". فمن جهة أولى، لا ينطلق العلم من "فراغ ثقافي" بل ينطلق من الرصيد الفكري الذي راكمته الأجيال المتلاحقة وهذا "الخزان العلمي، المكتسب عبر التاريخ، هو الذي يبلور التجربة ويخطط لها ويضعها في العملية البنائية تلك" (ص188). ومن جهة ثانية، ليس العلم شأنا فرديا بل هو شأن جماعي، تباشره جماعات من الباحثين تنتمي إلى مؤسسات علمية ذات تقاليد في البحث العلمي. ولذلك، فإن التجربة التي يقوم بها العالم تقوم على أكتاف الجماعة وتستند لتقاليد المؤسسة. ويزداد هذا الطابع الجماعي وبالتالي النقدي –التداولي للتجربة ترسخا حاليا لكون البحث العلمي أصبح مؤطرا في مؤسسات ذات بنيات مستقلة وأحيانا في شركات صناعية. وبناء على هذه المعطيات، يستخلص المؤلف أن "التجربة، والحكم الذي يقرر نتائجها، مشروطان بالمقام المفهومي التداولي، وفي نفس الوقت مشروطان بالتجهيزات التي تنتج هذه التجربة وتقيس مقاديرها. وبمجرد أن نقر بأن التجربة مشروطة بالمقام المفهومي والأداتي، فإننا نقر حتما بأنها تنتمي إلى إطار نظري محدد، منه تستقي قيمتها الدلالية والمعرفية" (ص190).
3 – إذا تقرر أن الملاحظة والتجربة النقيتين وغير المؤطرتين نظريا لا وجود لهما في العلم، فإن المفاهيم والقوانين العلمية وبالتالي الاكتشافات العلمية ليست حاصل عمليات استقرائية أو تعميما لأحكام فردية كما بدا للوضعانية.
لهذه الاعتبارات ولغيرها التي لا يتسع المجال لذكرها ينتهي المؤلف إلى التأكيد على فشل البرنامج الاستقراءاني وبالتالي التصور التجرباني للعلم. إنه من الممكن، يستخلص المؤلف، "الإقرار بأن الاستقراء، منطقا ومنهجا، كما تتصوره الوضعانية، غير بناء. ولذلك يجب مغادرة التجربانية الوضعانية" (ص210). إن المؤلف، إذ يفند مسلمة المنطلق التجريبي للمعرفة العلمية، يؤكد على تدخل "الخلفيات الثقافية" والملابسات المقامية في بناء العلم، وإذ يرفض أطروحة تميز ونقاء العلم، يعتبره "سيرورة بنائية" تتدخل فيها عناصر متعددة؛ كما يرفض أطروحة موضوعية العلم دون السقوط في الذاتانية والنسبانية الجذريتين.

3 – القسم الثالث: بنائية الاستدلال العلمي:
إذا كان المؤلف قد رفض رد التعقل العلمي إلى الاستنباط أو الاستقراء معتبرا إياهما "بمثابة المنتهى الأقصى للعمليات التعقلية التي لا تتحقق في الممارسة العملية" (ص413)، فإنه يرفض أيضا الموقف الفوضوي الذي ارتبط بفيرابند على وجه الخصوص. إن هذا الأخير إذ يرفض بصرامة كلا من الاستقراء والاستنباط يقترح مفهوم "مضاد-الاستقراء" كآلية للإبداع العلمي. فالتجديد العلمي هو، حسب فيرابند، إعادة للنظر في الحقائق السائدة وإبداع بدائل لها بطرق غير معهودة. غير أن مفهوم "مضاد-الاستقراء" عند فيرابند لا يخضع لضوابط علمية محددة بل إنه مجرد غامرة فكرية أو إجراء فوضوي محض. لقد أخضع المؤلف موقف فيرابند هذا لنقد دقيق، فبعد أن كشف على بعض مظاهر اضطرابه وتهافته بل وتناقضه أيضا، خلص إلى القول: "ليس "مضاد-الاستقراء" مفهوما يعبر عن آلية تلقائية أو منطقية للاستدلال، بل هو حد لغوي اصطنعه فيرابند لتبرير مناداته بالفوضى.. وبما أن التجربة تكشف عن انتظام معين في الطبيعة، فلا يمكن أن يكون الفكر العلمي فوضى عشوائية. وبذلك لا مكان لما يسميه فيرابند "مضاد-الاستقراء" في الفاعلية العلمية" (ص411-412).
وفي مقابل ذلك كله، يؤكد المؤلف أن الاستدلال العلمي الفعلي هو استدلال استكشافي-تمثيلي. فالتعقل العلمي لا يشتغل لا بواسطة آلية الاستقراء ولا بواسطة آلية الاستنباط ولا بواسطة مفهوم "مضاد-اللاستقراء"، ولكنه يشتغل بواسطة آلية التمثيل: "إن التعقل يشتغل بمناسبة إدراك ظاهرة أو فكرة أو علاقة ما، فيطبق عليها فكرة سابقة، فهو تعقل يختبر الأمور حالة بحالة، ويقيس الحالة الجديدة على حالات سابقة" (ص413). ويؤسس المؤلف موقفه هذا على جملة من الاعتبارات نذكر منها:
أ – تكشف الممارسة الفعلية للعلم أن التمثيل يلعب دورا بنائيا هاما في العلم. إنه إذ يسمح بتنقل المفاهيم والنماذج والفرضيات من مجال علمي إلى آخر، فإنه يقيم جسورا بين المجالات العلمية المتقاربة تسمح لها بالتلاقح المتبادل،
ب – إذا كان التعقل العلمي لا يشتغل بالآليات الاستدلالية فحسب، وإنما يستلهم أيضا عناصر السياق الثقافي والاجتماعي، فإن الآلية التي تناسبه هي آلية التمثيل، ذلك أن "التعقل التمثيلي آلية منفتحة على خصوصيات المقام، وحصيلة نشاطها تقبل المراجعة وإعادة البلورة بخلاف الأمر في الاستنباط والاستقراء" (ص416)،
ج – إذا كان العلم "سيرورة بنائية" يخضع لتعديلات ومراجعات متتالية فإن الآلية التي تناسبه هي بالتأكيد آلية التمثيل، ذلك أن "كل نتيجة تمثيلية قابلة للمراجعة، لأن التمثيل لا يؤدي إلا إلى نتيجة تقريبية ومقيدة بمجال مخصوص"(ص418)،
د – يعكس التمثيل خاصية أساسية مميزة للفكر العلمي ألا وهي خاصية الانفتاح. وبما أن انفتاح العلم يفترض "جدلا نقديا بناءا" بين المتخصصين، فإن التمثيل هو الآلية التي تتلاءم وهذا الطابع الدينامي للعلم،
هـ – إذا كانت الفرضية تشكل لحظة أساسية في بناء العلم، فإن الاستكشاف التمثيلي يلعب دورا مهما في بلورتها ونقدها. فإبداع الفرضية ليس خلقا من عدم، ولكنه "تعبير عن فكرة مستقاة من معارف سابقة، من خلال إدراك تشابه أو اختلاف المجال السابق والحالة الطارئة.."(ص416
و- وأخيرا، تتخذ التجربة العلمية بدورها صيغة عملية تمثيلية. إنها "تصمم على ضوء تجارب علمية سابقة" و"تنجز في شكل إعادة إنتاج الظاهرة أو وضع مثال حدث (ص 417).
هذه بعض الاعتبارات الأساسية التي جعلت المؤلف يقرر، خلافا لكل التصورات الوضعانية واللاوضعانية، أن الآلية التي تعكس فعلا حقيقة النشاط العلمي هي آلية الاستكشاف التمثيلي. ومن ثمة، إذا جاز لنا أن نتحدث عن منهج علمي فإنه ليس بالمنهج الفرضي الاستنباطي الذي ساد لدى جل العقلانيين ولا بالمنهج الاستقرائي الذي اعتمده جل التجريبانيين ولا بالمنهج المتكامل الذي يجمع بين آليتي الاستنباط والاستقراء وإن بدرجات متفاوتة حسب قناعات العلماء المذهبية وطبيعة المجالات العلمية كما ساد الاعتقاد لدى مجموعة من المفكرين من أمثال جيفونس وهويل وك.برنار وبلانشي وباشلار. إن المنهج العلمي – باعتباره جملة من الإجراءات المندمجة المتسمة بدرجة عالية من المرونة لا باعتباره مبادئ نظرية محددة وخطوات إجرائية مضبوطة وصارمة – هو منهج استكشافي – تمثيلي – استنباطي يلعب فيه كل من برهان الخلف ونظرية النسب والمرور إلى المنتهى أدوارا أساسية. فهذه الآليات الأخيرة هي آليات "ذات نواة استنباطية لكنها منفتحة على خصوصيات المجال"(ص297).

خاتمة:
ومرة أخرى، نجدد التأكيد على أن هذا التقديم لا يزعم الإلمام بمختلف جوانب الكتاب بل إنه مجرد محاولة متواضعة لتقديم فكرة عامة عن هذا العمل العلمي بكل المقاييس. إن غنى الكتاب وتنوع مضامينه وعمق ودقة تحليلاته تجعله يقاوم كل عرض مختزل. فلا شيء يعفي المهتم من قراءته. والحال، لا يمكنني أن أختتم هذه الورقة إلا على شكل ذيل سمكة كما يقول المثل الفرنسي. فإذا جاز اعتبار هذا العمل عملا فلسفيا، على الأقل من حيث أنه نشدانا للحكمة، يمكنني أن أختتم بالتذكير بقولة مشهورة لفرنسيس بيكون، صاحب مشروع الإحياء العظيم وكتاب الأورغانون الجديد: "إن الذين تناولوا العلوم كانوا إما تجربيين وإما اعتقاديين: الفئة الأولى كالنمل تكدس خزينها وتستعمله. والثانية كالعناكب تغزل من إفرازها نسيجها. أما النحلة، وهي وسط بين الاثنين، فهي تستخرج المادة من أزهار الحديقة والحقل، ولكنها تعمل فيها وتشكلها بجهودها الخاصة.
والعمل الحقيقي للفلسفة يماثل عمل النحلة..". وإذا علمنا أن النحلة تنتقي طعامها بدقة الفطرة لتحوله إلى ألذ طعام، أمكننا القول إن هذا العمل يشبه، إلى حد كبير، عمل النحلة.. إن الأمر لا يتعلق، في نظرنا، بمجرد مساهمة أصيلة ومتميزة في مجال البحث الإبستمولوجي المعاصر عموما والبحث الإبستمولوجي العربي خصوصا، بل يتعلق بمشروع أو برنامج عمل يستدعي دراسات قطاعية تضعه على المحك، وهي مهمة ملقاة على عاتق المنشغلين بتاريخ وفلسفة العلوم على وجه الخصوص

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
الاستدلال والبناء بحث في خصائص العقلية العلمية
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» بحث حول الاستدلال
» تناول الشاى الأخضر يساعد فى تحسين القدرات العقلية
» مفهوم الكتابة العلمية لعدد
» الخطوات المنهجية لانجاز البحوث العلمية
» خصائص المعلم المبدع في الزمن الحديث

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتديات الساقية الحمراء التعليمية :: منتدى التعليم المتوسط في الصحراء الغربية :: بحوث مدرسية-
انتقل الى: